[center]قصة حب خلف جدران من الصمت
دقت الساعة التاسعة صباحاً فاستيقظت مسرعةً والعرق يتصبب من جبيني وكأنني كنت أرى حلماً مزعجاً لكن الحقيقة أنني تأخرت عن موعد القطار لذلك سأضطر أن أذهب في الموعد الثاني...
فسارعت في ارتداء قميص النوم حتى أبدأ بتجهيز نفسي..سارعت إلى نافذتي لألقي التحية على أحبائي الصغار الذين كانوا قد ملوا الانتظار فحزنت لأني سأسافر دون أن أودعهم وهم الأكثر حياة في زحام المدينة..هم الأكثر رقة وحنية فبزقزقتهم قصائد حب شعرية وأحلى صباح للألحان الفيروزية...
رتبت سريري..وضعت الأحطاب في الموقد..وأكملت حزم أمتعتي ثم تناولت كأس من الشاي الساخن وقطعت جبن صغيرة على رغيف قد احترق من كثرة انتظاره..
ما أجمل هذا الصباح الذي بدأ بقصيدته الشعرية مغازلاً قطرات المطر التي تندت على أزهاره فقبلتها أجمل قبلة صباحية...أما أنا أستفيق لا أحد يقبلني إلا قبلة الأقلام للورق ومعانقة الروح لكلمات تنسل من بين أصابعي وكأنها روح تنزف من الألم..
أشعلت شمعة مع صلوات تمتمتها شفتي لتطهير الروح من الدنس..صلوات القديسين ليباركوا خطانا أينما توجهنا..
اتجهت لخزانتي المهترئة حتى أرتدي الثوب الذي اشتريته البارحة من ما تبقى من المعاش وبسعر رخيص حتى يتبقى ثمن التذكرة...
صففت شعري الأجعد بدبوس تركته لي أمي للذكرى...وضعت قبعتي ثم ربطة عنقي والكفين المطرزين بخيوط أصيلة من تراث جدتي...بدأت أترقب الغرفة بحزن شديد رغم ما فبها من ذكريات لكن قتلها الروتين العتيق والملل والضجر والحياة البائسة باعتقادي أنني سأكون أكثر سعادة بهجرتي لها إلى مكان آخر لا أعرف إلى أين...
تناولت حقائبي وأغلقت الباب وأنا أعلم أني سأعود مرة أخرى لكن لا أعرف كيف ستكون العودة؟...
واتجهت باتجاه سكة القطار حتى أصل في الوقت المناسب وصعدته والخوف والحزن لا يريد مفارقتي.
هاهي صافرة القطار تعلن رحيلها وأنا أتوجه نحوي مقعدي..جلست والشرود يعانق دموعي وكأنهما حبيبان لا يتمنيا الفراق...
وفجأة مدت لي يد تناولني منديلاً مطرزة برائحة وكأنها ليست بغريبة فتناولت المنديل دون أن أوجه ناظري ومسحت دموعي وأنا أعلم أنها لن تمسح مادامت الحياة على وتيرة واحدة..أعلم جيداً أن الدموع اعتادت على ملامسة وجنتي..وأن الضحك صار من المحرمات...
لقد كان أمامي بصمته وكأنه لم يقدم لي شيئاً فهو لم يتفوه بكلمة واحدة, لكني أحس أن وراء هذا الصمت لغز لأنه مرت ساعات وهو لم ينطق بكلمة واحدة فقط نظراته الصامتة.. الجريئة.. العنيفة تسطر ملامح الرجولة على الرمشين..تسطر الكلمات لتتفوهها الشفاه..وبالصمت دار حديثا لا يريد أن ينتهي...وكأننا نتكلم بالشفاه فقلت:
بكى الدوري فوق الشرفة
وذاب الكحل في الأجفان
فاختلفت المواعيد
اختلفت الأحاسيس
فأنا المغسولة بالأشواق
من ألف إلى ياء
يجيء شتائي القارس
مغسول بالأمطار
يعري الورد من أثوابه الباهية الألوان
والشجر من أثوابه الخضر
وقلبي من حزنه العفن
قال:
إن أتى الربيع
ولم تكوني في دمي أضيع
إذا أتى الربيع ياحبيبتي
يغمرني جوع
وغمر الحب جوع
إذا أتى الربيع
وفاحت الأشياء بالطيوب
ورمم العصفور قش أعشاشه الكئيبة
أضيع مع وداع الربيع
إذا أتى الربيع
وتفتحت زهور مشاتل التفاح
ولم أنم بين خصلات شعرك
وافق بين يديك كطائر جميل
أضيع..أضيع فلماذا تبكين؟
يشدني إليك صمت الطفولة
يشدني إليك ضحكة الندى على شفاه وردة
فما بالك تبكين؟
فرددت بصمتي وتمنيت لو أنه يفهم صمت الكلمات مثلما فهمت روحه المتحدثة:
يا مسافراًً لا أعرف أين؟
مع الغيمة الراكضة؟
مع المطر الغزير.. أم..
من أنت؟
وكيف تشتاق وتعشق لصمتي؟
لا أعرف إن كنت كما وصفتني
لكن كلامك جعلني ألبس ثوب حنينك
في عينيك قصة..حب..عشق صامت
لكنهما يرسمان فجر باسم
من أنت؟
بقيت رحلة العينين الصامتة ساعات طوال لكن تمنيت لو أسمع كلمة واحدة قبل أن تنتهي رحلة القطار مع أني أعلم أن الحياة قطار بعدة محطات...وأعلم جيداً أن النطق بالكلمات صار مغسولاً بتمتمات الناس فصار اسمها عيوب على لائحة قصص هذه الحياة...لكني عدت لرحلة النظرات الصامتة فقلت:
منذ ذلك الوقت...
لم تجرؤ يدي من كتابة قصيدة
لم تجرؤ من مسك ريشة
وإن عدت لأكتب
قل لي على أي دفاتر سأكتب
الأوراق أصبحت خالية
كما الشوارع فارغة من أجناسها
فقط متسولين في الزوايا
وهررة وكلاب تجوب الشوارع
تبحث عن لقمة عيشها
تلك اللقمة التي صنعت منها كلماتي
فصارت في أفواه الجياع
والروح مسافرة
سافرت لتتركني وحيدة مع الجياع
متسولة وأنا صاحبة الكلمات!..
ماذا تريد؟
تريد أن تسرقني في لحظات جنونية؟
وتحملني في جولات عشق خيالية؟
وتحضن نفوسنا بالأشواق الخفية
ماذا تريد؟
أتصبح سيدا لكلماتي؟
لا أعتقد ذلك..
فدموعي توارثتها الأجيال
أما القمر فتقاسموه
وتسابقوا من سيهديه لحبيبته..
فماذا ستقول لي؟
صمتك يحيرني
وغموضك يخيفني
لكنك أصبحت لوحة من لوحاتي
خلف جدران من الصمت
صمتك يحيرني
لكنه سيكون كفني يوم مماتي
سحرك يطوق أحزاني
وأصبحت لوحة من لوحاتي
خلف جدران من الصمت
سيدي ما أروع صمتك
وما أجمل الغوص في سحر عينيك
لأنه جعلني امرأة من الكلمات
كلمات شفتيك في عيد ميلادي
وهي التي ولدت يوم ميلادك
فشكراً للكلمات ولوللحظات..
وهكذا أحسست أنه قتل بالصمت وكأنه يريد التفوه ولو بكلمة قبل الوصول لكن بقيت تداعب شفتيه حتى لا يسرقها منه أحداً..
هاهي صافرة القطار تعلن وصولها من رحلة الحب خلف جدران من الصمت لكن وقبل أن نودع بعضنا أمسك بيدي وربط المنديل بإصبعي كتذكار منه... أما أنا فغسلت كفيه بدموعي متمنية أن لا تنتهي لحظات الصمت العاشقة المجنونة...و هكذا انتهت الرحلة مع الصمت المهاجر بحسرة وراء الأجفان..هكذا انتهت رحلة الحب خلف جدران من الصمت..
موضوع: قصه حب خلف جدران من الصمت 
الأحد يونيو 08, 2008 1:22 pm
